كن داعيا وخادما للاسلام

الجمعة، 15 نوفمبر 2019

الإلهام

الإلهام


يُعرَّف الإلهام بأنه "إشراف المعرفة وانبثاقها دفعة واحدة، بدون مقدمات معينة أو تذكر لمحفوظ أو خبرة واضحة"[1].



فالإلهام بهذا المعنى طريقٌ من طرقِ المعرفة عند جميع العلماء المحقِّقين، إلا أن المتصوفة خاصة عدُّوه الطريق الوحيد للمعرفة، وأن التربية الصوفية القاسية هدفُها الوحيد الوصول إلى هذه الدرجة من المعرفة، ونَيْل السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الرأي نجده واضحًا عند الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال".



وغلا بعضُهم أكثرَ من ذلك في تقدير الإلهام؛ إذ وضَعه بمرتبةِ الوحي للأنبياء والرسل، حتى أصبح العارفُ الصوفيُّ عندهم إنسانًا لا حدودَ لإلهامه، قد انكشفت حجب الغيب أمامه، والتقى بالملأ الأعلى، وبأرواح الأنبياء والرسل جميعًا، وهذا ما نجدُه عند ابن عربي الأندلسي[2] في كتابه "الفتوحات المكية".



ويأتي ابن تيمية ويضع الإلهام في مرتبتِه الحقيقية؛ حيث وضعه فيها الكتابُ والسنة، وينقد نقدًا شديدًا ابن عربي، ويبيِّن انحرافَه عن طريق الإسلام، وإلحاده بقوله في وحدة الوجود، ويُخَطِّئ الغزالي في رأيه أن الإلهام الطريق الوحيد للمعرفة، ويبيِّن أنه أحد طرق المعرفة، وهو نتيجة للتربية الإيمانية الملتزمة بالكتاب والسنة، لا أنه هدف كلي للإنسان، يحتاج إلى تربية صوفية معينة؛ مثل الخلوة، والذِّكر المفرد، وغيره، وعَدَّ ما يحصل للمُرِيد الصوفي، إِنْ هو إلا خيالاتٌ وأوهام لا أساس لها في المعرفة اليقينية[3].



فالإلهام حق وليس باطلاً عند ابن تيمية، وهو علم صحيح لا يقبل النقض، يقول في كتابه "درء تعارض العقل والنقل": "وأما طريقة الإلهام، فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب هو - عند أهله - علم ضروري لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض، فلا يمكن أن يكون باطلاً"[4].



ويدلِّل ابن تيمية على وجود الإلهام وواقعية حدوثه من الكتاب والسنة وسيرة الصحابة، ففي القرآن الكريم نجد أن الإلهام أحد دلالات الهدى، يقول: "وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين، الذين هداهم الله إلى طاعته، فإن الله -تعالى- أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 43]"[5].



"وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث وابصة: ((البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثمُ ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتَوْك))، وهو في السنن".



"وفي صحيح مسلم عن النوَّاس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((البِرُّ حسنُ الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرِهْتَ أن يطَّلع عليه الناس)).



ويتابع ابنُ تيمية التدليل على وجود الإلهام بقوله: "فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن، يقينًا أو ظنًّا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى، فإنه إلى كشفِها أحوج، لكن هذا في الغالب لا بد أن يكون كشفًا بدليل، وقد يكون الدليلُ ينقدح في قلب المؤمن ولا يمكنه التعبير عنه، وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان"[6].



ويقول ابن تيمية أيضًا: "وأما حجة أهل الذوق والوجد والمكاشفة والمخاطبة، فإن أهل الحق من هؤلاء لهم إلهامات صحيحة مطابقة، كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر))، وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقوا فراسةَ المؤمن، فإنه ينظر بنور الله))، ثم قرأ قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75].



وقال بعض الصحابة: "أظنُّه - والله أعلم - الحق يقذفُه الله على قلوبهم وأسماعهم"، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة - سبحانه - أنه قال: ((ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها)) وفي رواية: ((فبي يسمع، وبي يُبصِر، وبي يبطش، وبي يمشي))[7].



وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول ويكتب بذلك إلى عمَّاله: "احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون، فإنه يتجلَّى لهم أمور صادقة".



وبعد أن يدلل ابن تيمية على وجود الإلهام، وأنه طريق من طرق المعرفة، يبيِّن طريق اكتسابه، وأنه يمكن للمؤمن أن يكون من المُلهَمين بإذن الله، فيقول: "فكلما استعمل العبدُ عقلَه، وعمِل بعلمه، وأخلص في عمله، وصفا ضميرُه، وجال بفهمِه في بصيرة العقل، وذكاء النفس، وفطنة الروح، وذهن القلب، وقوَّى يقينَه، ونفى شكه، وضبَط حواسَّه بالآداب النبوية، وقام على خواطره بالمراقبة، وتحرَّى ترك الكذب في الأقوال والأفعال، وصار الصدقُ وطنَه، وذهب عنه الرِّياء والعُجب، وأظهر الفقر والفاقة إلى معبودِه، وتبرأ من حولِه وقوَّته، ولزم الخدمة، وقام بحرمة الأدب وحفظ الحدود والاتباع، وهرب من الابتداع - زِيدَ في معرفته وقَوِيَت بصيرتُه، وكوشف بما غاب عن الأعيان، وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد"[8].



الإلهام الرباني والإلقاء الشيطاني:

ويميز ابن تيمية بين الإلهام الذي يلهمه الله لعباده المؤمنين، وبين الهوى وما يلقي الشيطان على غير المؤمنين من الكافرين والعصاة، والميزان في ذلك هو الكتاب والسنة. يقول: "وكل مَن خالف الرسول لا يخرج عن الظنِّ وما تهوى الأنفس، فإن كان ممَّن يعتقد ما قاله وله فيه حجة ويستدل بها، كانت غايته الذي لا يغني عن الحق شيئًا، كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من الله وكان من إلقاء الشيطان"[9].



ويقول أيضًا: "وكذلك مَن اتَّبع ما يَرِدُ عليه من الخطاب، أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة، فإنما يتبع ظنًّا لا يُغنِي عن الحق شيئًا، فليس في المُحدَّثين المُلهَمين أفضل من عمر، وقد وافق عمرُ ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، وكان إذا تبين له من ذلك أشياء خالف ما وقع له، فيرجع إلى السنة، وكان أبو بكر يبيِّن له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيان الصِّدِّيق وإرشاده وتعليمه"[10].


[1] ابن تيمية، لعبدالرحمن النحلاوي ص 81.

[2] محيي الدين بن عربي 560 - 631هـ، صوفي أندلسي مشهور، غلا في طريق التصوف، وقال بوحدة الوجود التي تقول بوحدة الخالق والمخلوق، وقد كفَّره كثير من العلماء بسبب هذا المذهب المخالف للعقيدة الإسلامية، وله مقام معروف في مسجد باسمه في مدينة دمشق.

[3] ينقد ابن تيمية منهج المعرفة عند الصوفية عامة، وعند الغزالي خاصة في كتاب فتاوى الرياض 13/230 - 269، و10/393 - 407 و2/57، وينقد ابن عربي في كثير من كتبه، ومن ذلك فتاوى الرياض 2/112 - 125.

[4] درء تعارض العقل والنقل 8/46.

[5] فتاوى الرياض 10/582 - 583.

[6] فتاوى الرياض 10/476 - 477.

[7] درء تعارض العقل والنقل 8/518.

[8] درء تعارض العقل والنقل 8/518.

[9] مجموعة الرسائل الكبرى 1/51.

[10] مجموعة الرسائل الكبرى 1/55، 56.




0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاسلام سؤال وجواب موقع الفتوى والدعوة الاسلامية

موقع الدرر السنية للدفاع عن السنة المطهرة

شبكة الالوكة الاسلامية

موقع التاريخ الاسلامي قصة الاسلام

اكبر عملية تزوير في تاريخ الاسلام - افق قبل الموت

موقع الاسلام اليوم --عين على العالم

موثع صيد الفوائد للدعوة والعلوم الشرعية الاسلامية

موقع طريق الاسلام للعلوم الشرعية والاسلامية

خبير الاعشاب والتغذية العلاجية (خبير الاعشاب والتغذية العلاجية ) Powered by Blogger Design by Blogspot Templates