القرآن كتاب العربيّة الأكبر:
والقرآن هو كتاب العربية الأكبر، ورمز وحدة العرب الكبرى وجامعتهم العظمى، وبه اكتسبت لغة العرب بقاءها، وحيويتها؛ وبه صار العرب أمة واحدة مؤمنة موحدة، متآلفة القلوب متجانسة المزاج، متحدة اللسان، متشابهة البيان، وبه صار المسلمون في صدر الإسلام أمة واحدة، لا يفرق بينها جنس، ولا لون، ولا لغة، فقد انصهرت كل هذه الفوارق في نور الإسلام، ولم يبق إلا الاعتزاز بالإسلام والقرآن، وصار لسان الواحد منهم يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ** إذا افتخروا بقيس أو تميم
ومنه استمد العرب والمسلمون علومهم ومعارفهم، فما من علم من علومهم إلا وله بالقرآن سبب، وله منه ورد ومدد، ولولا هذا الكتاب العربي المبين لاستعجمت لغة العرب، وأضحت في عداد اللغات الميتة، فهو الذي يجدد شبابها كلما اعتراها الهرم والضعف، ويأخذ بيدها إذا ألمّ بها التخلف والركود، ولولا هذا الكتاب لما كانت هذه الثروة الطائلة من العلوم التي تدور حول القرآن، ولغة القرآن وتجول في رحابه الواسعة.
وما من عربي- أيا كان دينه- إلا وله بهذا الكتاب مفخرة واعتزاز وحب ووفاء؛ لأنه يخاطب فطرته اللغوية ووجدانه البياني، وروحه العربية الصافية الشفافة.
.القرآن كتاب الهداية الكبرى:
والقرآن هو هداية الخالق لإصلاح الخلق، وشريعة السماء لأهل الأرض. وهو التشريع العام... الخالد الذي تكفل بجميع ما يحتاج إليه البشر في أمور دينهم ودنياهم. في العقائد، والأخلاق وفي العبادات وفي المعاملات: المدنية، والجنائية، وفي الاقتصاد، والسياسة، والسلم، والحرب، والمعاهدات، والعلاقات الدولية وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة، لا يعتريه خلل ولا اختلاف، ولا تناقض ولا اضطراب وصدق الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء: 82] وأصيل غاية الأصالة، وعدل غاية العدالة، ورحيم غاية الرحمة، وصادق غاية الصدق، وصدق الله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنعام: 115].
فلا عجب.. أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه، والتزام ما جاء به وأن كان الشفاء لأمراض النفوس وأدواء المجتمع؛ فاهتدت به القلوب بعد ضلال، وأبصرت به العيون بعد عمى، واستنارت به العقول بعد جهالة، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات، وصدق الله: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [سورة الإسراء: 9- 10]. وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً} [سورة الإسراء: 82].
وقال: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: 15- 16].
.القرآن حارب التقليد ودعا إلى النظر والتأمل في الكون:
وهو الكتاب الذي فك العقول من عقالها، وأطلق النفوس من إسارها، وأنحى على التقليد والمقلدين بالذم والتوبيخ، قال عز شأنه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة البقرة: 170]، وقال: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة: 104].
وهو الكتاب الذي وجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار وغرائز واستعدادات، قال عز شأنه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات: 21] والنظر في الآفاق والآيات الكونية علويّها وسفليّها، ظاهرها وخفيها وعما تنطوي عليه من حكم، وما أودع الله فيها من خواص وسنن وأفاض في ذلك في غير ما سورة وآية، وإن شئت اليقين في ذلك فاقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة البقرة: 164] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [سورة ال عمران: 190].
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر» رواه ابن مردويه وعبد بن حميد، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سورة ق: 6- 8] وقال سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [سورة الغاشية 17- 22] وقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] إلى غير ذلك من الآيات التي لا يحصيها العد.
وقد زخر القرآن العظيم بهذا النوع من الآيات، وكثرت كثرة زادت على آيات الأحكام، ولاسيما في القسم المكي، ولذلك سرّ: ذلك أن هذا النظر، وذاك التأمل غالبا ما ينتهيان بالإنسان العاقل المجرد عن الأهواء والشهوات، إلى الوصول إلى الإيمان بالخالق جل وعلا ووحدانيته وتفرده بصفات الكمال والجلال، والجمال والإيمان بالبعث والمعاد، وأن هناك حياة أخرى خيرا من هذه الحياة، والإيمان بالملائكة والرّسل الكرام وإذا ما آمن البشر بهذه العقائد سهل عليهم بعد تلقي الشرائع، والتزامها علما، وعملا، وسلوكا، وخير الإيمان ما كان عن بينة ودليل، وخير العلم والعمل ما كان عن اطمئنان وبحث، واقتناع.
.القرآن فتح الباب للعلوم التجريبية:
والقرآن حينما دعانا إلى النظر في الآيات الآفاقية والأنفسية لم يقف بنا عند حد الاعتبار والاتعاظ بالظواهر والصور والأشكال فحسب، وإنما أراد- إلى ذلك- استكشاف المستور، واستكناه الأسرار، والتقصي عما فيها من عجائب وسنن وخواص عن طريق الملاحظة حينا والتجارب أحيانا أخرى؛ وبذلك يكون القرآن فتح أبوابا للعلوم التجريبية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان.
ولو أن المسلمين استفادوا بما في هذا الكتاب الكريم من توجيهات وإرشادات؛ لكانوا- كما كان الشأن في سلفهم الأولين- أسبق الأمم إلى الكشوف العلمية والاختراع والابتداع، ولصاروا سادة الدنيا، وأضحى بيدهم زمام الأمور، ولكنهم جمدوا ولم يستفيدوا بهدي القرآن وإرشاداته، فكانوا على ما ترى...!
.لقرآن حارب العنصرية والعنجهية الجاهلية:
والقرآن هو الذي قضى على العنجهية، ودعاوى الجاهلية، وقضى على التفرقة العنصرية والنسبية واللونية، ووضع أساس المساواة بين الناس كافة، فالناس ربهم واحد وكلهم لآدم لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض، وإنما التفاضل بالتقوى، والتقوى جماع كل هدى وحق وخير.
وصدق الله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، فالناس مهما تعددت شعوبهم، وتباينت أممهم فيجمعهم رباط واحد، وهو رباط الإنسانية العام، وهذا أسمى ما يطمع فيه من تشريع!
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} [سورة النساء: 1].
.القرآن كوّن أمة مثالية:
وهو الكتاب الذي صلحت به الدنيا، وحول مجرى التاريخ، وأقام أمة كانت مضرب الأمثال في الإيمان والإخاء والعدل والوفاء، والوفاق والوئام، وأظل العالم بلواء الأمن والسلام حقبا من الزمان، وصيّر من رعاة الإبل والشاء علماء حكماء رحماء، وسادة قادة في الحكم، والسياسة والسلم، والحرب، عقمت الدنيا عن أن تجود بمثلهم.
وهو الكتاب الذي لا تفنى ذخائره، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يزداد على التكرار إلا حلاوة وطلاوة، وصدق القائل:
تزداد منه- على ترداده- مِقَة ** وكلّ قول- على التّرداد- مملول
وتلك لعمر الحق خصيصة من خصائص القرآن ومن كان في شك من هذا فليستفت الذوق والوجدان والقلب والآذان، وليوازن في هذا بين كلام الله وكلام الإنسان، وحينئذ سيتذوق، ومن ذاق عرف، ومن عرف اعترف.
ومهما تعاقبت على هذا الكتاب العزيز الأجيال والسنون لا يزداد إلا جدة وطرافة ولا يزال غضا طريا كما أنزل، وكلما تقدمت العلوم والمعارف الإنسانية تكشف للناس منه العجب العجاب وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ * الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت: 53] بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
وقصارى القول وحماداه: أنك لن تجد في الكشف عن حقيقة هذا الكتاب وخفاياه وفضائله ومزاياه أوفى مما وصفه به نبينا محمد بن عبد الله.
روى الترمذي بسنده عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: أوقد فعلوها قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» قلت: وما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم ينته الجن إذ سمعوه حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
إن كتابا هذا بعض شأنه لجدير أن يضعه الإنسان بين عينيه، ويجعله أنيسه في خلوته، ورفيقه في سفره، وصديقه الصدوق في يسره وعسره، ومستشاره الأمين في أمور دينه ودنياه، وحجته البالغة في حياته وأخراه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق